Wednesday, June 20, 2007

و ما الدنيا إلا سيرك كبير! يا مصر

نقـــــــلا عــــن موقــع ثــــــــروة_مـــــصــــــر


كتبت: داليـــا زيـــادة





قبل الآن بعدة قرون: ويليام شكسبير جالسا في غرفته وحيدا لساعات يقدح زناد فكره و أخيرا يخرج بالجملة العبقرية: "وما الدنيا إلا مسرح كبير!"




قبل الآن بقرن تقريبا: يوسف "بيك" وهبي – في فيلم غزل البنات - واقفا أعلى درجات سلم القصر الفاخر و يردد بصوته الجهوري و بنبرة تغلفها الشفقة و الألم: "و ما الدنيا إلا مسرح كبير!"




الآن (غالب ظني أنه الآن): داليا زيادة تنقر على لوحة مفاتيح اللاب توب المفتوح على العالم عبر الإنترنت – ذلك اللعين الذي أيقظنا على حقائق لم نكن نرغب في معرفتها – في محاولة لكتابة مقال عنوانه: "و ما الدنيا إلا سيرك كبير!"





اختلف شكل الزمان لكن لم تضعف أبدا مهارته في الوثب من قرن إلى قرن دون أن يسمح للدنيا بأدنى تغيير لا في الشكل و لا في المضمون, فالبشر هم نفس البشر و الأشياء تتكرر مع لمسات طفيفة من بعض الهرج هنا و بعض المرج هناك.




منذ فترة لا بأس بها و أنا أحاول مغالبة نفسي لتجاهل بعض الصور التي تتلاحق أمام عيناي كل يوم دون أن تمنحني فرصة للتفكير أو التأمل في أسبابها, لكنني فشلت. ألصقت السبب أحيانا بالعولمة – التي أحبها و يكرهها الآخرون – ففشلت في أثبات الاتهام، ألصقت التهمة بسذاجتي و عدم خبرتي الكافية بالحياة، ففشلت في هضم الفكرة، حاولت ألف محاولة و محاولة لتجاهل تلك الصور لكن تكرارها أحبط كل محاولاتي، فأيقنت أن الدنيا في حقيقتها هي سيرك كبير.




American20flag20picture داخل مبني السفارة الأمريكية مزهرية جميلة شديدة البساطة و شديدة الروعة تتخذ شكلا اسطوانيا و لون معدني .. بداخلها أحجار طبيعية و من بين الأحجار تقف زهرتان بنفسجيتان شديدا الروعة و البهاء و على يمين الزهرتين, علم أمريكا مرشوق في نفس الأحجار بشكل يوحي لك و كأن تلك الأحجار قد أنبتت زهرتين و علم، وقفت أتأملها كثيرا في صمت, حتى ظن من حولي أني أرغب في سرقتها. بصراحة, كنت أرغب في سرقتها بالفعل, كنت أرغب في حرقها أيضا, أصابتني الضغينة و الحنق على شعب أمريكا الذي يحب بلاده – و بلاده فقط – لدرجة أنه وضع العلم في مزهرية واحدة مع وردتين رائعتين, و تبادر إلى ذهني علم مصر المهلهل و الممزق و المتسخ و الذي كان معلقا على سطح مدرستي الابتدائية و كان مدرس الإذاعة المدرسية الملتحي يجبرنا نحن التلاميذ – مسلمين و مسيحيين – على ترديد عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بدلا من التحية الأقرب لقلب كل مصري "تحيا جمهورية مصر العربية".




Smile في مكاني الأثير على كورنيش النيل – صديقي القديم – جلست لأتحدث معه قليلا .. مع النيل .. قررت أن أشكو له من أن عيناي لم تعد تحتمل, لكني لم أفعل جلست ساعات أحاول نسيان همي في صور العشاق الصغار من البنات و الأولاد المنتشرين بطول الكورنيش و ترتسم على عيونهم سعادة الحب الغامرة رغم حرارة الشمس التي أصبحت في اطراد عاما بعد الأخر بسب ظاهرة الاحتباس الحراري في العالم و التي تسببت فيها الدول الرأسمالية التي تسعى بكل جهد لكسب المال على حساب أي شيء أخر, حتى و إن كان هذا الشيء الآخر هو حياة البشر, و تذكرت أخي الأصغر الذي لا يختلف كثيرا عن هؤلاء الشباب و كيف أنه ما زال يؤمن انه عندما يقدم على الزواج لن يتزوج أبدا من البنت التي يخرج معها الآن! ببساطة لأن موافقتها على الخروج معه دليل على "قلة أدبها و عدم تربيتها" على حد قوله, و أنه عندما يقدم على الزواج سيبحث عن فتاة منقبة – لا أكثر و لا أقل – لا يريد بها أي صفة أخرى سوى أن تكون منقبة! يا سلام؟




توقفت عن متابعة المحبين, و قررت الشكوى إلى النيل, لكنه هو الذي بادرني بالشكوى هذه المرة, تعجبت, كيف للنيل أن يشكو؟ و ما إن نظرت على مقربة و رأيت, ففهمت سبب شكواه .. مركب ذا لون أبيض تشبه سيارات الشرطة تماما, بداخلها ضابط و أمين شرطة بملابس الشرطة التي اعتدناها بقدر ما كرهناها و ليس بملابس شرطة المسطحات المائية, ذُهلت و أنفرج فمي لحظات, دققت النظر أكثر فرأيت على المركب كلمة "POLICE" بالخط العريض .. يا الله! ما الذي أتى بهؤلاء هنا؟ ألا يكفيهم أنهم أصبحوا يسدون علينا منافس الهواء في كل شبر على أرضك يا مصر؟ ألم يكفيهم تشويههم لكل شوارعك بسياراتهم المدرعة؟ حتى النيل لم يرحموه؟ حتى النيل الطيب المسالم لم يعتقوه؟




06052007002 أخرجت هاتفي المحمول و رحت التقط لهم الصورة تلو الأخرى دون أن ارغب في أي توقف و خُيل لي للحظة أن كاميرا تليفوني قد تحولت إلى مسدس أصوبه نحوهم, و عندها لم أرد أن أتوقف عن ضغط الزناد (زر التصوير) حتى أيقنت أنهم لا يموتون, فبكيت و اختلطت دمعاتي بدموع النيل, ووقفنا نحن الاثنين – أنا و النيل – بلا حيلة, ذكرته بما كان منهم من سلبية العام الماضي و هم يرون البنات و النساء يتعرضن للتحرش الجنسي في وسط البلد دون أن يتحرك ضابط واحد منهم على الرغم من كثرتهم, ذكرته بما يفعلونه بالشباب العاشق لتراب مصر في المظاهرات و الاحتجاجات و ما يفعلونه بالمواطنين الغلابة داخل أقسام الشرطة،




انهمرت دموعي و لم أكفكفها عللي أعجز عن رؤية ذلك المركب اللعين, فغسل لي النيل وجهي ببعض من دموعه و قال في محاولة للتخفيف عني "لا تنزعجي كثيرا يا داليا، ربما يخاف العسكر من تهور أسماك البلطي و عمل مظاهرة تضامنية معكم أيها المدافعون عن الديمقراطية و حقوق الإنسان" فضحكت و ضحكت لأني أؤمن جدا أن شر البلية ما يضحك.




02012007 قالوا لنا قديما في مصر, أن "الشرطة في خدمة الشعب", و كنت أصدق هذا لحين أخذتني قدماي إلى مصلحة جوازات السفر و رأيت هناك لافتة ضخمة مكتوب عليها "الشرطة و الشعب في خدمة القانون" يجلس تحتها عسكري شرطة على كتفه بندقية واضح عليها الصدأ. ابتسمت ساخرة و جريت قبل أن يلاحظ سخريتي أحدهم، و اضطررت لهضم العبارة الجديدة, و أقنعت نفسي أن هناك قانون في مصر يستحق أن نكون في خدمته, و أن الشرطة و الشعب سواء في ذلك. تماما كما سبق و أقنعت نفسي قديما أن الشرطة هي التي في خدمة الشعب و ليس العكس. و تبادر إلى ذهني فورا مشهد عسكري الشرطة المسئول عن أمن المترو, الذي فضل أن ينام بدلا من أن يحافظ على أمن المترو .. فعلا نام. و ضحكت كثيرا و أنا التقط له الصورة على أنغام شخيره دون أن يشعر بي, ضحكت هذه المرة كثيرا جدا ربما لأن الضحك هو وسيلتي الوحيدة لقهر الألم و كلما زاد الضحك كلما خجلت الآلام و توارت.




11022007 في مقهى سيلانترو, في ركني المفضل, أجلس مع تيم صديقي الإنجليزي و زوجته ستيفاني الفرنسية, أحكي لهم عن مغامراتي مع أمي – تلك الديكتاتورة المحبة – التي لا تكف عن التضييق علي و على حياتي فقط لأني بنت و لا يصح أن أفعل أي شيء بدءا من السفر في المؤتمرات و انتهاءا بالخروج وحدي ليلا طالما أني غير متزوجة. أو بمعني أكثر وضوحا طالما أني ما زلت عذراء!! حكيت لهم عن تجاهلها المهين لإنجازاتي و نجاحي و طموحي في عملي و رد فعلها الباهت عندما أتيتها بأول كتاب ينشر عليه اسمي, حين قالت لي "أن لا شيء من كل هذا يساوي عندها أي شيء", فراحت ستيفاني و تيم يسديان لي النصائح بالاستقلال عنها و ترك البيت و الاعتماد على نفسي في حياة لا يجبرني فيها أحد على شيء, و قد نسيا تماما أني من مصر, و كدت أنا أيضا أن أنسى حتى وقعت عيني دون أن أشعر على الجدار المكتوب عليه "Be Your Self!" فاعتذرت فورا و تركتهم, و في طريقي للبيت رحت أفكر و أفكر هل استطيع فعلا أن أكون نفسي في وسط هذا السيرك الكبير؟ هل يمكن لأحد فيك يا مصر أن يكون نفسه؟ فكلنا مهرجون, نصحو مبكرا لنلطخ وجوهنا ببسمات مصطنعة و ننسى أن نمسحها قبل أن ننام, كمن كذب الكذبة و صدقها.




و بين كل الصور التي أرهقت مقلاتاي, و قبل أن أقرر الانتحار في احضان النيل مثلا أو على ابسط تقدير فقأ عيني حتى لا أرى بشاعة ذلك السيرك, وجدتُك أنت – حقيقة لا حلم – و رأيت حلمي بك يتجسد في رجل من لحم و دم. و فهمت أنه إن لم يكن من سبب للحفاظ على حياتي و إبقاء عيناي سليمتين, فرؤية وجهك تكفيني سببا.