Tuesday, September 18, 2007

حبس المناخ الديمقراطي


حبس المناخ الديمقراطي
بقلم عزت القمحاوي
نقلا عن المصري اليوم
١٨/٩/٢٠٠٧

تسارعت الأحداث في الأيام القليلة الماضية باتجاه العصف بحرية الصحافة، بدأ بالإعلان عن محاكمة الزميل إبراهيم عيسي رئيس تحرير الدستور بتهمة ترديد الشائعات حول صحة الرئيس، ثم بالحكم السريع عليه بالحبس عاماً مع ثلاثة آخرين من رؤساء التحرير: عادل حمودة، عبدالحليم قنديل، ووائل الإبراشي بتهمة السب والقذف هذه المرة.

التحول المفاجئ من احتمال الصحافة إلي العصف بها لايشبه إلا حلول الخريف المفاجئ بعد صيف كنا نظنه لن ينتهي أبداً. علي الرغم من التحذيرات التي كانت تنطلق بين الحين والحين من "استغلال المناخ الديمقراطي" ولم ندرك إلا مع هذا التحول معني أن تكون الديمقراطية حالة مناخية وليست حالة قانونية.

كل المنافحين عن النظام من الصحفيين وأعضاء الحزب الوطني لايجدون ما يقولونه علي شاشات الفضائيات سوي التحذير من استغلال "مناخ الديمقراطية" المتاح بفضل الرئيس مبارك.

وكأن العبارة تعميم رسمي، ولا أظنها كذلك، لكن اللغة تفضح، أو أن المعني الواحد اختار الكلمة ووضعها علي جميع الألسن؛ فلو كنا نعيش حالة ديمقراطية حقيقية لتحدثنا عن وضع أو حالة، أما أن تكون الديمقراطية مناخاً، فهذا يعني أنها متبدلة.

والمناخ ـ وهذا هو الأسوأ ـ دائري، أي لايمكننا أن نأمل بالتقدم في خط مستقيم نحو مستقبل أفضل، بل هي فصول تتوالي لنجد أنفسنا من جديد في المكان نفسه.

والأخطر أن المناخ الطبيعي منحة إلهية ، ورحمة الله تسبق غضبه، لكن المناخ السياسي منحة بشرية، وهذا يجعله أكثر عرضة للمخاطر، حيث لانضمن أن تسبق رحمة الرئيس غضبه، خصوصاً في وجود أشخاص في هياكل حزبية وحكومية يكافحون من أجل الإبقاء علي كل ما هو فردي وشخصي، ويحرضون الرئيس ضد كل من يحاول ترسيخ دولة المؤسسات من خلال المعارضة السلمية بالكتابة والنشر والتظاهر.

وأسوأ التحريض هو التحذير من "استغلال المناخ الديمقراطي" وكأن الديمقراطية طبق فاكهة بلاستيكي يزين الصالون، وفي هذا إساءة منهم إلي الرئيس إذا ما أخذنا بمفهومهم باعتبار الديمقراطية منحة رئاسية، وليست نتيجة لحراك اجتماعي ودولي ونتاجاً لروح عصر، فليس جميلاً بحق الرئيس أن يمنحنا ديمقراطية لانتذوقها.

ولقد تذوقت الصحف الخاصة الديمقراطية وجربت قدراتها سواء في النقد الذي لم يجد من يرد عليه بالحجة و بالمعلومة الواضحة، أو في شائعة مرض الرئيس.

ولوناقشنا الأمر علي أرضية مهنية، سنجد أن الإخبار بوجود شائعة هو بحد ذاته خبر. والاتهام الموجه للصحف ليس اختلاق الشائعات، بل ترديدها، أي أنها أخبرت عنها، أما المقالات التي بنيت علي وجود هذه الشائعات والتي تضمنت محاولات لرسم سيناريوهات المستقبل فهي تدخل في باب فن صحفي أساسي هو فن "التحليل" الذي يستهدف الوصول إلي أقصي قدر من المعرفة من خلال الاستناد إلي القليل المتاح من المعلومات، وليس ذنب الصحافة الجديدة أن هذا الفن الذي يقوم علي الاستدلال المنطقي قد دفن مع صحافة تنتظر الأوامر.

وأن يكون المجلس الأعلي للصحافة جاداً في اعتبار التعامل مع شائعة مرض الرئيس انهياراً مهنياً ينبغي تقويمه فهذا لايعني إلا محاولة استنساخ البرافدات الحكومية في الصحف الخاصة لتصبح علي شاكلتها. وقد ألقي خبراء وحكماء المجلس بكل ثقلهم وراء التفريق بين الشائعة والخبر، علي اعتبار أن الشائعة للشارع والخبر علي درجة من الرصانة تليق بالصحافة المحترمة، ولم يقولوا بالطبع: "التي لايقرؤها أحد".

ولذلك فإن أخطر ما تضمنته جلسة المجلس الأعلي للصحافة هو ما لم تتضمنه!

وهذه ليست فزورة، فالاجتماع الذي رأسه صفوت الشريف رئيس المجلس ورئيس مجلس الشوري، ضم رؤساء تحرير الصحف القومية، ولم يتضمن مساءلة ممثل المالك لهذه المؤسسات العملاقة رؤساء تحرير صحفها: لماذا تحكمت صحيفة وليدة تصدر من شقة متواضعة التأثيث والتجهيز من السيطرة علي الرأي العام بينما أخفقوا هم بإمكانياتهم الضخمة وأبراج مبانيهم المتعددة ومعهم برج ماسبيرو؟

وفي المقابل لم يعاتب الصحفيون ممثل المالك وأحد أركان النظام: لماذا لاتمدوننا بالمعلومات السريعة؟!

بالطبع لايمكن أن نتهور أكثر ونحلم بأن يهتفوا: أعطني حريتي أطلق يدي، لأنهم أول المستريحين إلي الإبقاء علي " المناخ الديمقراطي" للتصوير فقط.

علي أية حال تنبهنا هذه الأحكام إلي أن "مناخ الديمقراطية" بوضعه الحالي تسمم، وأن ما تستحقه مصر هو حالة قانونية أكثر انضباطاً، وما يجب أن تعمل عليه الأسرة الصحفية هو إقرار تشريعات واضحة يلتزم بها الجميع ويستند إليها بدلاً من الاستناد إلي "مناخ" يكفهر فجأة.