Thursday, February 21, 2008

حكاية عصفور أدرك مؤخرا أن له جناحين



سأحكي لك حكاية.. حكاية عصفور أدرك مؤخرا أن له جناحين


يحكى أنه في زمن يشبه فصول الصيف و مكان يشبه تلك الأماكن كان هناك عصفور صغير يحيا حياة طيبة بين أمه و أخوته داخل العش المثبت فوق فرع شجرة،حياة لم يعيبها إلا أنها كانت مجرد حياة، و لأن العصفور لم يكن كبقية أقرانه، دفعه طموحه إلى معرفة المزيد عن هذا العالم، لذلك كان يضيق دائما بالحدود التي وضعتها لأجله أمه بالتآمر غير المعلن مع الظروف المحيطة، و دفعه هذا إلى استعجال أمره.. فبمجرد أن تعلم المشي، وجد في نفسه الشجاعة لأن يقفز من فوق الشجرة غير مكترث بما قد يترتب على ذلك، توقع كل المخاطر الممكنة و استعد لمواجهتها لكنه أبدا لم يتوقع أنه ربما يسقط على الأرض فيموت، كانت ثقته في جناحيه كبيرة جدا. وطبعا كان مخطئا!


في لحظة غفلة من الأم، قفز العصفور الصغير و عندما وجد نفسه يسقط، فرد جناحيه عن أخرهما لكنهما كانا ضعيفين جدا، خاناه! فمازال المسكين غضا صغيرا و ضعيفا.. و أخذ يسقط و يسقط حتى اقترب جدا من الأرض و علم حينها أنه ميت لا محالة فأغمض عينيه و توسل إلى الله أن ينقذه. و بالفعل أستجاب له "الرحمن" و دفع برَجُلٍ طيب (أو هكذا كان يبدو) ليمر من تحت الشجرة في هذا التوقيت تحديدا، و إذا بالعصفور يسقط على كتف هذا الرجل بدلا من أن يسقط على الأرض، و من رحمة الله بالعصفور المسكين أن جعل الرجل يحبه، فعطف عليه و عامله برفق و احتضنه بين يديه و أبقاه هناك طويلا جدا و أصبحا – العصفور و الرجل - صديقين حميمين أقرب ما يكونا إلى عاشقين متلازمين لا يفترقان أبدا!


كان العصفور الصغير يرى في هذا الرجل اختصارا لكل المعاني الطيبة في هذا الكون، مثلا كان يرى فيه الأمان المطلق، إذ بات كف الرجل للعصفور الصغير بيتا بديلا عن العش الموجود هناك فوق الشجرة، و أصبح العصفور الصغير يرى أن قبضة كفي الرجل القوية عليه مصدرا جيدا للشعور بالدفء الذي يحتاجه ليعيش، بينما كان يرى الآخرون أن إحكام الرجل قبضته على العصفور بهذا الشكل قد تقتله! و كان يرى العصفور الصغير أن في نسائم الهواء الزهيدة الممزوجة برائحة جسد صديقه و التي كانت تتسلل إليه عبر أصابع كفيه المطبقتين عليه.. كان يرى أن في هذه النسمات القليلة جدا ما يكفيه لكي يتنفس و يعيش! الغريب و ربما المضحك أيضا أن العصفور الصغير كان راضيا و سعيدا تماما و يشعر بحريته الكاملة في هذه الحياة التي كانت في حقيقتها حياة داخل سجن و الموت خير منها! طبعا كان مخطئا!


و الغريب و المضحك أيضا أن الرجل الذي كان العصفور الصغير – نتيجة لعدم الفهم الصحيح لحقيقة البشر – يرى فيه اختصارا لملذات العالم، كان هو بدوره لا يرى العصفور على أنه ذلك المخلوق الجميل القادر على الطيران و التحليق بعيدا كيفما شاء، بل كان يراه دائما مجرد "كتكوت" و اختار له هذا الأسم، و بات يناديه به طوال الوقت، و تجاهل كل احتياجاته الأخرى التي خلقه الله بها لأنه عصفور، إلى أن اقتنع كل من العصفور الصغير و صديقه الرجل بأنه مجرد "كتكوت" بدليل أن اجنحته لم تحمله عندما حاول الطيران للمرة الأولى، و بدليل أنه راض بالحياة الزهيدة تلك بين كفي صاحبه – راض بأن يكون مجرد تابع و ليست هذه شيم العصافير! لماذا فعل الرجل الذي كان يبدو طيبا هكذا بالعصفور؟ لا أحد يعرف، لكن الجميع عرفوا بما يشبه اليقين أن العصفور الذي توهم خطئا أنه مجرد كتكوت كان يعشق هذا الرجل و لا يرى في الكون ملاذا سواه، و كان يتوهم أن الابتعاد عنه هو مرادف آخر للموت. و طبعا كان مخطئا!


إلى أن جاء يوم و ألقى الرجل بالعصفور في الهواء دون سابق إنذار، و بلا سبب يذكر، يبدو أنه مل اللعبة، أو وجد له بديلا، و أصبح كل شيء يراه جميلا في العصفور – أو الكتكوت كما كان يحلو له أن يسميه – بالأمس هو كل شيء قبيح يستحق لأجله العصفور هذا النبذ اليوم، و فعلا طوح الرجل بالعصفور بعيدا جدا في الهواء، فراح العصفور المسكين – بينما كان معلقا بين السماء و الأرض – يبكي و يتوسل إلى صاحبه لكي يبقيه بين يديه التي لم يعرف سواهما له وطنا، لكن هذا الصاحب أدار له ظهره و تجاهله بعد أن نطق جملة واحدة: "أنت السبب! أنت من فعل بنا هذا يا كتكوت!" و أدار وجهه و رحل، دون أن يلقي بالا لما قد يواجهه العصفور الصغير من مصاعب.. و يا للعجب!


بينما كان العصفور معلقا في الهواء، و بداخله يقين بأنه مجرد كتكوت ذو أجنحة كسيحة لا تقوى على حمله و الطيران به، ثم الهبوط به سالما إلى الأرض، كان يظن بشدة أنه ساقطا لا محالة و أن لحظة الموت حانت، لكن الرغبة في البقاء على قيد الحياة كانت أقوى من كل شيء، فقرر العصفور أن يتوسل إلى الله من جديد لينقذه، فألهمه الله أن يكف عن الاعتماد على الآخرين هذه المرة و أنه ما من سبيل لإستعادة صاحبه الذي غدر، بل إن على العصفور أن يبحث في داخله و يتعرف على قدراته بنفسه و يستغلها، و بالفعل بين لحظة و أخرى، و بينما كاد العصفور أن يلامس الأرض و يموت وتنتهي قصته إلى الأبد، فرد جناحيه فوجدهما يرفعانه فعلا و قادرين فعلا على حمله، فأخذ يطير و يرتفع حتى وصل آفاقا أبعد و سماءا أرحب، و هناك أدرك أنه حقا عصفور، و أنه لم يعد صغيرا ليسمح للآخرين بإيهامه أنه شيء آخر غير عصفور جميل و حر. و كانت تلك المرة الأولى التي لم يخطئ فيها!


و هناك بعيدا في أحضان السماء الواسعة جدا، أكتشف العصفور الذي أصبح كبيرا أن دفء يدي من كان صاحبه ما هو إلا مجرد شرارة ناتجة عن احتكاك حجرين إذا ما قورنت بروعة الدفء الذي تمنحه له الشمس، التي راحت أشعتها الجميلة تداعب وجهه و تخبره سرا بأن الشمس أشرقت اليوم لأجله هو فقط على سبيل الاحتفال بتحريره أخيرا من قبضة الرجل، و أدرك العصفور الذي بات كبيرا أن دفعات الهواء المتدفقة إلى رئتيه هنا أجمل ألف مرة دون أن تكون ممزوجة برائحة كف صديقه الذي غدر! و في هذه المرة لم يكن مخطئا أبدا!


و بينما غاص العصفور في إحساس النشوة الجميل في احضان الطبيعة، تذكر صديقه و بدلا من أن يشعر بالحنق و الغضب تجاهه وجد أنه واجبا عليه أن يشكره، مرة لأنه أنقذه (غير قاصدا) من السقوط عندما كان صغيرا، و مرة لأنه طوح به في الهواء (مع سبق الإصرار و الترصد) و منحه تلك الفرصة العظيمة جدا للتعرف على روعة العالم الحقيقي بعيدا عن كفيه الضيقين جدا، فنظر العصفور للأسفل بحثا عن صاحبه القديم، نظر إليه فوجده بعيدا جدا جدا و صغيرا جدا جدا، فتعجب كيف أن يدي هذا الرجل العاديتين جدا كانتا تحمله! و كيف رأي فيه – و هو مجرد "رجل" – اختصارا لكل ملذات الكون!